فصل: تفسير الآية رقم (24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (24):

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعي غايةَ المجهود، وجاوزتم في الجِد كلَّ حدَ معهود، متشبثين بالذيول، راكبين متنَ كل صَعْب وذَلول، وإنما لم يصرَّح به إيذاناً بعدم الحاجة إليه، بناءً على كمال ظهورِ تهالُكِهم على ذلك، وإنما أُورد في حيز الشرطِ مُطلقُ الفعل وجُعل مصدرُ المأمورِ به مفعولاً له للإيجاز البديعِ المغني عن التطويل والتكرير، مع سِرَ سَرِيَ استَقلَّ به المقامَ وهو الإيذان بأن المقصودَ بالتكليف هو إيقاعُ نفسِ الفعل المأمور به، لإظهار عجزِهم عنه لا لتحصيل المفعول أي المأتي به ضرورةَ استحالته، وأن مناطَ الجوابِ في الشرطية أعني الأمر باتقاءِ النار هو عجزُهم عن إيقاعه لا فوتُ حصولِ المفعول، فإن مدلولَ لفظٍ هو أنفُسُ الأفعال الخاصة لازمةً كانت أو متعديةً من غير اعتبارِ تعلقاتِها بمفعولاتها الخاصة، فإذا عُلِّق بفعل خاصَ متعدَ فإنما يُقصَدُ به إيقاعُ نفس ذلك الفعل وإخراجُه من القوة إلى الفعل، وأما تعلقُه بمفعوله المخصوصِ فهو خارج عن مدلول الفعلِ المطلقِ وإنما يستفاد ذلك من الفعل الخاص، ولذلك تراهم يتوسلون بذلك إلى تجريد الأفعالِ المتعديةِ عن مفعولاتها وتنزيلِها منزلةَ الأفعالِ اللازمة، فيقولون مثلاً: معنى فلانٌ يعطى ويمنع يفعل الإعطاء والمنع، يرشدك إلى هذا قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ} بعد قوله تعالى: {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} فإنه لما كان مقصودُ يوسفَ عليه السلام بالأمر ومَرْمَى غرضِه بالتكليف منه استحضارَ بنيامين لم يكتفِ في الشرطية الداعية لهم إلى الجِد في الامتثال، والسعْيِ في تحقيق المأمورِ به بالإشارة الإجماليةِ إلى الفعل الذي ورد به الأمر بأن يقول: فإن لم تفعلوا، بل أعاده بعينه متعلقاً بمفعوله تحقيقاً لمطلبه وإعراباً عن مقصِده.
هذا وقد قيل: أُطلق الفعلُ وأريد به الإتيانُ مع ما يتعلق به إما على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرةِ بالضمائر الراجعةِ إليها حذراً من التكرار، أو على طريقة ذكر اللازمِ وإرادةِ الملزوم، لما بينهما من التلازمِ المصححِ للانتقال بمعونة قرائنِ الحال فتدبر، وإيثارُ كلمة إنْ المفيدةِ للشك على إذا مع تحقق الجزم بعدم فعلِهم مجاراةٌ معهم بحسَب حُسبانهم قبل التجربة أو التهكمُ بهم.
{وَلَن تَفْعَلُواْ} كلمة لن لنفي المستقبلِ كَلاَ، خلا أن في لن زيادةَ تأكيدٍ وتشديد، وأصلُها عند الخليل لا أن وعند الفراء لا أُبدلت ألفُها نوناً وعند سيبويه حرفٌ مقتَضَبٌ للمعنى المذكور، وهي إحدى الروايتين عن الخليل والجملة اعتراضٌ بين جزأي الشرطية مقرِّر لمضمون مُقدَّمِها، ومؤكِّدٌ لإيجاب العمل بتاليها، وهذه معجزة باهرةٌ حيث أُخبر بالغيب الخاصِّ علمُه به عز وجل وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيءٍ يُدانيه في الجملة لتناقَلَه الرواةُ خلفاً عن سلف.
{فاتقوا النار} جوابٌ للشرط على أن اتقاءَ النار كنايةٌ عن الاحتراز من العِناد، إذ بذلك يتحقق تسبُّبه عنه وترتُبه عليه، كأنه قيل: فإذا عجَزتم عن الإتيان بمثله كما هو المقررُ فاحترزوا من إنكار كونِه منزّلاً من عند الله سبحانه فإنه مستوجِبٌ للعقاب بالنار، لكنْ أوثر عليه الكنايةُ المذكورة المبنيةُ على تصوير العنادِ بصورة النارِ، وجُعل الاتصافُ به عينَ الملابسة بها للمبالغة في تهويل شأنِه، وتفظيعِ أمرِه، وإظهارِ كمال العنايةِ بتحذير المخاطبين منه، وتنفيرِهم عنه، وحثِّهم على الجدِّ في تحقيق المكنِي عنه، وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى، حيث كان الأصل، فإن لم تفعلوا فقد صح صِدْقُه عندكم، وإذا صح ذلك كان لزومُكم العنادَ وتركُكم الإيمانَ به سبباً لاستحقاقكم العقابَ بالنار، فاحترزوا منه واتقوا النار {التى وَقُودُهَا الناس والحجارة} صفةٌ للنار مُورثةٌ لها زيادةَ هولٍ وفظاعةٍ أعاذنا الله من ذلك، والوَقودُ ما توقد به النارُ وتُرفع من الحطب.
وقرئ بضم الواو وهو مصدرٌ، وسمِّي به المفعول مبالغةً كما يقال: فلان فخرُ قومِه وزَيْنُ بلدِه، والمعنى أنها من الشدة بحيث لا تمَسُّ شيئاً من رَطْبٍ أو يابس إلا أحرقته، لا كنيران الدنيا تفتقِرُ في الالتهاب إلى وَقودٍ من حطب أو حشيش وإنما جُعل هذا الوصفُ صلةً للموصول مقتضيةً لكون انتسابها إلى ما نسبت هي إليه معلوماً للمخاطَب بناءً على أنهم سمِعوه من أهل الكتاب قبل ذلك، أو الرسولِ صلى الله عليه وسلم، أو سمِعوا قبل هذه الآية المدنية قولَه تعالى: {نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} فأُشير هاهنا إلى ما سمعوه أولاً، وكونُ سورةِ التحريم مدنيةً لا يستلزِمُ كونَ جميعِ آياتها كذلك كما هو المشهورُ، وأما أن الصفةَ أيضاً يجبُ أن تكون معلومةَ الانتساب إلى الموصوف عند المخاطَبِ فالخطبُ فيه هيِّن، لما أن المخاطَب هناك المؤمنون، وظاهرٌ أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالحجارة الأصنامُ، وبالناس أنفسُهم حسبما ورد في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية.
{أُعِدَّتْ للكافرين} أي هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عِدةً لعذابهم والمرادُ إما جنسُ الكفار والمخاطَبون داخلون فيهم دُخولاً أولياً، وإما هم خاصةً، ووضعُ الكافرين موضعَ ضميرهم لذمهم وتعليلِ الحكم بكفرهم. وقرئ {أُعتِدت} من العَتاد بمعنى العِدة، وفيه دلالة على أن النارَ مخلوقةٌ موجودة الآن، والجملة استئنافٌ لا محل لها من الإعراب مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها، ومؤكدةٌ لإيجاب العمل به، ومبيِّنةٌ لمن أريد بالناس دافعةٌ لاحتمال العموم، وقيل: حال بإضمار قد من النار، لا من ضميرها في وَقودها، لما في ذلك من الفصل بينهما بالخبر، وقيل: صلةٌ بعد صلةٍ أو عطفٌ على الصلة بترك العاطف.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
{وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} أي بأنه منزلٌ من عند الله عز وجل، وهو معطوف على الجملة السابقة لكن لا على أن المقصودَ عطفُ نفس الأمرِ حتى يُطلبَ له مَشاكِلٌ يصِحُّ عطفَه عليه، بل على أنه عطفُ قصةِ المؤمنين بالقرآن، ووصفِ ثوابهم، على قصة الكافرين به وكيفيةِ عقابهم، جرياً على السُنة الإلهية من شفْع الترغيب بالترهيب، والوعدِ بالوعيد، وكان تغييرُ السبك لتخييل كمالِ التباين بين حالي الفريقين، وقرئ {وبُشرِّ} على صيغة الفعل مبنياً للمفعول عطفاً على أعِدَّت، فيكونُ استئنافاً، وتعليقُ التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح، لكن لا لذاتهما، فإنهما لا يكافِئان النعمَ السابقة فضلاً من أن يقتضِيا ثواباً فيما يستقبل، بل بجعل الشارعِ، ومقتضى وعدِه وجعل صلتِه فعلاً مفيداً للحدوث بعد إيرادِ الكفارِ بصيغة الفاعل لحثِّ المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان، وتحذيرِهم من الاستمرار على الكفر، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل من يتأتَّى منه التبشير، كما في قوله عليه السلام: «بشر المشّائين إلى المساجد في ظلم الليالي بالنور التام يوم القيامة» فإنه عليه السلام لم يأمُر بذلك واحداً بعينه بل كلَّ أحد ممن يتأتى منه ذلك، وفيه رمزٌ إلى أن الأمر لعِظَمه وفخامة شأنه حقيقٌ بأن يتولى التبشيرَ به كلُّ من يقدر عليه، والبِشارة الخبرُ السار الذي يظهر به أثر السرور في البشرة، وتباشيرُ الصبح أوائلُ ضوئه {وَعَمِلُواْ الصالحات} الصالحة كالحسنة في الجريان مَجرى الاسم، وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقلِ، واللام للجنس، والجمعُ لإفادة أن المرادَ بها جملةٌ من الأعمال الصالحة التي أشير إلى أمهاتها في مطلع السورةِ الكريمة، وطائفةٌ منها متفاوتةٌ حسبَ تفاوتِ حال المكلفين في مواجب التكليف، وفي عطف العملِ على الإيمان دلالةٌ على تغايرهما وإشعارٌ بأن مدار استحقاقِ البشارةِ مجموعُ الأمرين، فإن الإيمان أساسٌ والعملُ الصالح كالبناء عليه ولا غَناءَ بأساس لا بناءَ به.
{أَنَّ لَهُمْ جنات} منصوبٌ بنزع الخافض وإفضاءِ الفعل إليه، أو مجرور بإضماره مثل: «الله لأفعلنّ» والجنةُ هي المرة من مصدر جَنَّه إذا ستره، تُطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانِه، قال زهير:
كأنّ عينَيَّ في غَرْبيِّ مقتلة ** من النواضِحِ تسقي جنةً سَحَقا

أي نخلاً طوالاً كأنها لفرطِ تكاثفِها والتفافِها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفسُ السُترة وعلى الأرض ذاتُ الشجر، قال الفراء: الجنة ما فيه النخيل، والفِردوسُ ما فيه الكَرْم، فحقُ المصدر حينئذ أن يكونَ مأخوذاً من الفعل المبني للمفعول وإنما سميت دارَ الثواب بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغُرفات والقصور لما أنها مناطُ نعيمها، ومعظمُ ملاذها، وجمعها مع التنكير لأنها سبعٌ على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما: جنةُ الفردوس، وجنة عدْن، وجنة النعيم، ودارُ الخلد، وجنةُ المأوى، ودارُ السلام، وعِلِّيُّون.
وفي كل واحدة منها مراتبُ ودرجاتٌ متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها.
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} في حيز النصب على أنه صفةُ جنات. فإن أريد بها الأشجارُ فجريانُ الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرضُ المشتملة عليها فلابد من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارِها وإن أريد بها مجموعُ الأرض والأشجار فاعتبارُ التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهِرِ المصحِّح لإطلاق اسم الجنة على الكل.
عن مسروق: أن أنهارَ الجنة تجري في غير أخدود، واللامُ في الأنهار للجنس، كما في قولك: لفلان بستانٌ فيه الماءُ الجاري والتينُ والعنب، أو عِوَضٌ عن المضاف إليه كما في قوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} أو للعهد، والإشارة إلى ما ذكر في قوله عز وعلا: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} الآية. والنهَرُ بفتح الهاء وسكونها المجرَى الواسعُ فوق الجَدْول ودون البحر كالنيل والفرات، والتركيبُ للسَّعة، والمرادُ بها ماؤها على الإضمار أو على المجاز اللغوي، أو المجاري أنفسُها، وقد أسند إليها الجريانُ مجازاً عقلياً كما في سال الميزاب.
{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا} صفة أخرى لجنات، أخِّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصفٌ لها باعتبار ذاتها، وهذا وصفٌ لها باعتبار أهلِها المتنعِّمين بها، أو خبرُ مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة، كأنه حين وُصفت الجناتُ بما ذكر من الصفة وقع في ذهن السامع أثمارها كثمار جناتِ الدنيا أولاً، فبيّن حالُها، و{كلما} نصبٌ على الظرفية، ورزقاً مفعول به، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقعَ الحال، كأنه قيل: كلَّ وقت رزقوا، مرزوقاً مبتدأ، من الجنات مبتدأً من ثمرة على أن الرزق مقيدٌ بكونه مبتدأ من الجنات، وابتداؤه منها مقيدٌ بكونه مبتدأً من ثمرة، فصاحبُ الحال الأولى رزقاً، وصاحبُ الثانية ضميرُه المستكنّ في الحال، ويجوز كونُ {من ثمرة} بياناً قُدّم على المبين كما في قولك: رأيت منك أسداً، وهذا إشارةٌ إلى ما رزقوا، وإن وقعت على فرد معين منه كقولك مشيراً إلى نهر جارٍ: هذا الماءُ لا ينقطع، فإنك إنما أشرتَ إلى ما تعايِنهُ بحسب الظاهر لكنك إنما تعني بذلك النوعَ المعلومَ المستمر، فالمعنى هذا مثلُ الذي رزقناه {مِن قَبْلُ}، أي من قبل هذا في الدنيا، ولكن لما استحكم الشبَهُ بينهما جُعل ذاتُه ذاتَه، وإنما جُعل ثمرُ الجنة كثمار الدنيا لتميل النفسُ إليه حين تراه، فإن الطباعَ مائلة إلى المألوف متنفِّرة عن غير المعروف، وليتبين لها مزّيته وكُنهُ النعمة فيه إذ لو كان جنساً غيرَ معهود لظُن أنه لا يكون إلا كذلك أو مثلُ الذي رُزقناه من قبل في الجنة لأن طعامَها متشابهُ الصور كما يحكى عن الحسن رضي الله عنه أن أحدَهم يؤتى الصَّحْفة فيأكلُ منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثلَ الأولى فيقول ذلك: فيقول الملكُ: كلْ فاللونُ واحدٌ والطعمُ مختلف، أو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:
«والذي نفسي بيده إن الرجلَ من أهل الجنة ليتناول الثمرةَ ليأكُلَها فما هي واصلةٌ إلى فيه حتى يُبدِّلَ الله تعالى مكانها مثلَها» والأول أنسبُ لمحافظة عمومِ كلما، فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالةَ كلَّ مرة رزقوا لا فيما عدا المرةَ الأولى يُظهرون بذلك التبجحَ، وفرطَ الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذةُ مع اتحادهما في الشكل واللون، كأنهم قالوا: هذا عينُ ما رُزقناه في الدنيا فمن أين له هذه الرتبةُ من اللذة والطيب.
ولا يقدُح فيه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه ليس في الجنة من أطعمة في الدنيا إلا الاسمُ، فإن ذلك لبيان كمالِ التفاوتِ بينهما من حيث اللذةُ والحُسنُ والهيئة لا لبيانِ ألا تشابُهَ بينهما أصلاً، كيف لا وإطلاقُ الأسماء منوطٌ بالاتحاد النوعيّ قطعاً، هذا وقد فُسّرت الآيةُ الكريمة بأن مستلذاتِ أهلِ الجنة بمقابلة ما رزقوه في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتةُ الحال، فيجوز أن يريدوا هذا ثوابُ الذي رزقناه في الدنيا من الطاعات، ولا يساعده تخصيصُ ذلك بالثمرات، فإن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من قبيل الثواب.
{وَأُتُواْ بِهِ متشابها} اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله والضميرُ المجرورُ على الأول راجعٌ إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا في الدارين كما في قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} أي بجنسي الغني والفقير، وعلى الثاني إلى الرزق {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة كالحيْض والدَرن ودنَس الطبع وسوءِ الخلق، فإن التطهرَ يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال، وقرئ {مطهَّراتٌ}، وهما لغتان فصيحتان، يقال: النساءُ فعلت وفعلن وهن فاعلةٌ وفواعل، وقال:
وإذا العذارى بالدُّخان تقنَّعت ** واستعجلت نصبَ القدور فمَلَّتِ

فالجمع على اللفظ، والإفراد على تأويل الجماعة، وقرئ {مطَّهِرة} بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطَّهِرة أبلغُ من طاهرة ومتطهرة، للإشعار بأن مُطَهِّراً طهرهن، وما هو إلا الله سبحانه وتعالى. وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن كما عند اغتسالهن، والزوجُ يطلق على الذكر والأنثى، وهو في الأصل اسم لما له قرينٌ من جنسه، وليس في مفهومه اعتبارُ التوالد الذي هو مدارُ بقاءِ النوعِ حتى لا يصِحَّ إطلاقُه على أزواج أهلِ الجنة لخلودهم فيها، واستغنائهم عن الأولاد، كما أن المداريةَ لبقاء الفردِ ليست بمعتبرة في مفهومِ اسمِ الرزق حتى يُخِلَّ ذلك بإطلاقه على ثمار الجنة.
{وَهُمْ فِيهَا خالدون} أي دائمون، والخلودُ في الأصل الثباتُ المديد دامَ أو لم يدُمْ، ولذلك قيل: للأثافي والأحجارِ الخوالدُ وللجُزءِ الذي يبقى من الإنسان على حاله خالد، ولو كان وضعه للدوام لما قُيِّد بالتأبيد في قوله عز وعلا: {خالدين فِيهَا أَبَداً} ولَما استُعمل حيث لا دوام فيه لكن المرادَ هاهنا الدوامُ قطعاً لما يُفضي به من الآيات والسنن، وما قيل من أن الأبدانَ مؤلفةٌ من الأجزاءِ المتضادة في الكيفية معرَّضة للاستحالات المؤديةِ إلى الانحلال والانفكاكِ مدارُه قياسُ ذلك العالمِ الكاملِ بما يشاهَد في عالم الكوْن والفساد، على أنه يجوز أن يُعيدَها الخالق تعالى بحيث لا يعتوِرُها الاستحالة، ولا يعتريها الانحلالُ قطعاً، بأن تُجعلَ أجزاؤها متفاوتةً في الكيفيات متعادلةً في القوى، بحيث لا يقْوَى شيءٌ منها عند التفاعُل على إحالةِ الآخر، متعانقةً متلازمةً لا ينفك بعضُها عن بعض، وتبقى هذه النسبةُ متحفظةً فيما بينها أبداً لا يعتريها التغيرُ بالأكل والشرب والحركات وغيرِ ذلك.
واعلم أن معظمَ اللذاتِ الحسية لما كان مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكِح حسبما يقضي به الاستقراءُ، وكان مَلاكُ جميع ذلك الدوامَ والثباتَ إذ كلُّ نعمة وإن جلت حيث كانت في شرف الزوال ومعرِضِ الاضمحلال فإنها منغِّصةٌ غيرُ صافيةٍ من شوائب الألم بَشَّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلاً للبهجة والسرور، اللهم وفقنا لمراضيك، وثبتنا على ما يؤدي إليها من العقْد والعمل.